في ذلك اليوم حين عادت حفيدتي من مدرستها كانت على غير عادتها فقد أسرعت ترتمي في حضن أمها وهى تبكى، وأخذت أمها تهدهدها وتربت على رأسها لتهدئها وخشيت عليها من بكائها الشديد وإقتربت منهما لأتعرف مع أمها على سبب هذا الحزن.
وحين هدأت قليلا قالت والدموع في عينيها: أنا لا أريدك أن تموتي أبدًا يا أمي..وردت أمها بقلب حنون: حاضر يا حبيبتي لا تخافي.. ولكن ما بك؟..وأخذت الطفلة تحكى كيف كانت فى الصباح وهى ذاهبة إلى المدرسة تكاد تقفز من السعادة فاليوم سيحتفلون بعيد الأم وستقدم كل طالبة هدية إلى المعلمة، وستستمع المعلمة إلى كل منهن وهي تتحدث عن خطتها للتعبير عن شكرها وحبها لأمها.
ومضت الصغيرة تقول: وأنا في غمرة السعادة لمحت عيناي صديقة لي منزوية وحدها في أحد الأركان، فإقتربت منها وظننت في البداية أن سبب إبتعادها وشرودها أنها لم تحضر هدية للمعلمة، ولكني رأيت معها هدية جميلة، فسألتها عن سبب إنطوائها على نفسها، وعدم مشاركتنا المرح والحديث، فقالت: إنني أخشى هذا اليوم من كل عام، وأكره مجيئه، فهو يوم تقهرني فيه الدموع مهما أغالبها.. أستمع إلى كل هذه الأناشيد والأغنيات عن الأم ومحبتها، وأشاهد كل هذه الصور الحانية في التلفاز وفي الطرقات، وأشاهد فرحة زميلاتي في المدرسة وحين أعود إلى المنزل لا أجد أمي فقد أخذها الموت مني.
ومضت الزميلة الكسيرة تقول: علمني أبي أن كل الناس سيموتون، وهو يغمرني بحنانه وعطفه، ولكن هذا اليوم يزلزل كياني.. وكم أود ألا أحضر فيه إلى المدرسة ولكنني أخجل من البوح بضعفي وإظهار جزعي، فضلًا عن أن ظروف البيت لا تسمح لي بذلك.
وأخذت حفيدتي مرة أخرى في البكاء الشديد وهى تردد: أنا لا أريد أن اذهب إلى المدرسة أبدًا في هذا اليوم.. وبدأت أمها تحضنها وتمسح دموعها حتى هدأت ونامت قليلًا.
وإذا بي أجد إبنتي تقبل على وفى عينيها فيض من المشاعر المختلطة من الحزن والأسى والخوف، وقالت بكل رجاحة عقلها: ماذا يراد منا في هذا اليوم؟
هل يراد منا إختزال كل أعمال البر بالوالدين حتى تصبح ذكرى سنوية ليوم واحد؟ أم يراد بنا أن تتحرك بداخلنا مشاعر سلبية لا نستطيع التعامل معها؟
وهل البر أن نقدم هدية في يوم كل عام.. أم هو التباري والمنافسة في العطاء المادي والمعنوي بلا كلل أو ملل.
ثم أردفت إبنتي قائلة: هل تذكرين يا أمي صديقتك التي كانت تغضب غضبا شديدا اذا أحضر لها إبنها هدية اقل فى القيمة من الهدية التي أحضرتها زوجته لأمها؟ وهل تذكرين تلك القريبة التي كانت تصر على أن يحضر أبناءها الهدايا بأنفسهم ولا تقدمها الزوجات؟
أتدرين يا أمي كم يملأني الحزن كلما تذكرت عمتى التى كانت فى هذا اليوم لا تتكلم مع أحد، ولا تريد أن يراها احد لان إبنها الوحيد قد مات، فيعزّ عليها أن تخالط الناس وترى الأمهات يلتف حولهن الأولاد؟
أخذت الذكريات تمر على خاطري، وتذكرت تلك الأم التي قالت لي مرة فليكن هناك يوم للأم فإنه يذكر أبنائي بي، ويكونون حريصين فيه على المجيء لزيارتي أو الإتصال بي ولو بعد إنقطاع.
وتذكرت أيضا جارتي التي كانت تعد العدة لهذا اليوم، وتوفر من مصروف البيت للهدايا فى هذا اليوم لان عليها ان تهادى أمها وأم زوجها وكيف كانت تحسد بعض صديقاتها اللاتي ليس لديهن أم زوج.
وأخرى تعيش نكدا قبل هذا اليوم وبعده لقطيعة زوجها لأمه، فهو لا يريد أن يهديها شيئا، ويمنعها هي أيضا أن تهديها أو أن تبلغها سلامه.
والنماذج كثيرة والحكايات الواقعية التي تهز القلوب لا تنتهي، ولا ننكر أن البعض يقوم في هذا اليوم بسلوك طيب كزيارة لدر المسنات، ولكننا نجدهن وقد تعالت في قلوبهن مشاعر الغم والعقوق من الأبناء، أو أن يقوم بزيارة لدار أيتام ويدخل عليهن السرور والحنان، ويجدهم يتمنون لو كان يوم الأيام أيامًا كثيرة حتى ينهلن من هذا الإهتمام والحب.
ما يحدث وما نراه ونسمعه من حولنا في هذا اليوم يجعلنا نبحث بحثا واعيا لندرك أن ديننا الحنيف وهدى نبينا المصطفى صلى الله عليه وسلم يأمرنا بعبادة الله وحده وربطها دائما بالإحسان بالوالدين، وهذا الإحسان لا يمكن ان يكون كل مضمونه هو أن يكون لنا يوما للأم أو يوما للأسرة.
إن هذه الأفكار والمقترحات وجدت في مجتمعنا الإسلامى مرعا خصبا حين إبتعدنا عن أوامر ديننا، وقدمها لنا من يريدون أن يسطحوا هدى نبينا صلى الله عليه وسلم ثم نعود لنصفق لهم لأنهم يقدمون لنا خيرا كثيرا عظيما.
إن في ديننا الدلالة على كل أبواب الخير، وسنظل نعانى من تلك الشرور اذا إبتغينا الخير في غير الهدى النبوي الشريف.
إلى كل الأحفاد..إلى كل الأبناء.. إلى كل الأمهات...إلى كل الآباء.. إلى كل الأجداد إلى كل مسلم ومسلمة.. فلنتعلم من ديننا القيم، وكيف تكون العلاقات بيننا ليطمئن كل يتيم انه مكفول من مجتمعه الإسلامي، ولتحيا كل أم عزيزة كريمة ولا يسمع أي من الوالدين من أبنائهما ولو كلمة أف، ولتطمئن كل أم وكل أب انه لن يرمى بهما في نهاية العمر، ليكن البر في حياتنا قرين العبادة والتوحيد فتصبح أيامنا كلها أيامًا للأم، وأعيادًا للطاعة.
الكاتب: تهاني الشروني.
المصدر: موقع رسالة المرأة.